سورة هود - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}.
البيّنة: الحجة، والدليل الموصل إلى ما يتبينه الإنسان من أمور.. فهى من البيان، وهو الظهور، وقد سمّى الرسول بيّنة، لأنه يبين للناس طريق الحق والخير.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً}.
المرية: الشك والارتياب.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أنّها تعرض صورة لأهل الإيمان، وما في نفوسهم من استعداد لتقبّله، والاستجابة له، بعد أن عرضت الآيات السابقة صورة لأهل الزيغ والضلال، ومن في قلوبهم مرض.
والبيّنة هنا هى الاستبصار الذي يتعرف به الإنسان إلى الحق، مستهديا إليه بعقله، فيتعرف إلى اللّه، ويؤمن به، ولا دليل معه، سوى عقله، الذي ينظر به في هذا الوجود، فيطلعه على أن لهذا الكون وللنظام الممسك به، إلها قديرا، عليما حكيما.
وكثير من الناس تعرفوا على اللّه، وآمنوا به، عن هذا الطريق، طريق النظر الشخصي، المنقطع عن دعوات الأنبياء، وتوجيهات الرسل.. ففى الإنسان فطرة، ومعه عقل من شأنهما أن يهدياه إلى اللّه، وأن يكشفا له الطريق إليه، لو أنه ظل محتفظا بسلامة فطرته، حارسا عقله من دوافع الهوى، ونزغات الشيطان.
وفى قوله تعالى: {وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ} ضميران:
الضمير الأول، في {يتلوه} وهو يعود إلى البيّنة، بمعنى أنها برهان ودليل، أو بمعنى أنها نور من عند اللّه، يضىء القلوب، وينير البصائر.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [22: الزمر].
ويكون معنى {يتلوه}: أي يجىء بعده، أي بعد هذا النور، أو هذا البرهان، أو هذا الدليل- يجىء شاهد يؤكّد صدق هذا البرهان، ويدعم هذا الدليل، ويلقى إلى هذا النور نورا.. أما هذا الشاهد، فهو القرآن الكريم، وما فيه من دلائل الإعجاز التي من شأنها أن تفتح القلوب للإيمان باللّه.
والضمير الثاني، في قوله تعالى: {منه} ويعود إلى اللّه سبحانه وتعالى، وقد ذكر سبحانه، في قوله تعالى: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ..} والشاهد، هو القرآن الكريم، كما قلنا من قبل.
ويكون المعنى على هذا: أيستوى من كان على نور من ربّه، بما أودع اللّه سبحانه وتعالى، فيه، من فطرة سليمة، فينظر إلى هذا الوجود ببصيرة مبصرة، وقلب سليم، حتى يعرف ربّه، ويؤمن به، مستهديا إلى هذا الإيمان عن طريق التدبّر والنظر.. ثم يزداد معرفة، ويزداد إيمانا واطمئنانا، حين يلتقى برسول اللّه، ويستمع إلى كلمات اللّه، فيجد منها شاهدا مبينا يشهد بصدق ما وقع لنظره وما اهتدى إليه بعقله، من التعرف على اللّه والإيمان به- أيستوى من هذا شأنه ومن ختم اللّه على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة، فلم يهده نظره إلى الإيمان، إذ كان أعمى، ولم يستجب لمن يقوده إليه؟ شتان ما بين النور والظلام، والحق والباطل.
وفى قوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً}.
الضمير في {قبله} يعود إلى الشاهد، وهو القرآن الكريم.
والمعنى أن من قبل هذا القرآن كان كتاب موسى، وكان هذا الكتاب {إماما}، أي متقدما في الكتب السماوية {ورحمة} لما حمل إلى الناس من هدى ونور.. فليس هذا الكتاب الذي جاء به محمد من ربّه حدثا لم يقع في الناس، بل لقد سبقته كتب جاءت من عند اللّه.. فكيف ينكر هؤلاء الضالّون أن يأتى إنسان بكتاب من عند اللّه؟ وكيف يقولون هذا القول الذي حكاه القرآن عنهم، منكرا متوعدا فقال تعالى: {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.. قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ} [91: الأنعام].
فإذا لم يكن في الكتاب الذي جاء به محمد ما يرون في وجهه أنه من عند اللّه- عمى منهم، وكفرا وعنادا- فليكن لهم في واقع التاريخ ما يمسك بهم عن المكابرة، أن يقولوا ما أنزل اللّه على بشر من شىء.. فذلك إنكار لواقع محسوس، حيث هؤلاء الرسل الذين ذكرهم التاريخ، وحيث هذه الكتب السماوية التي يدين بها ألوف البشر.. وهذه التوراة.. كتاب موسى، وهؤلاء هم اليهود الذين يدينون بها.. فكيف يسمح لعاقل عقله أن يقول: ما أنزل اللّه على بشر من شىء..؟
في قوله تعالى: {أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}.
الإشارة هنا بأولئك، موجهة إلى المذكورين في قوله تعالى: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ}.
وقد استخدم القرآن الكريم، الاسم الموصول {من} بلفظه أولا، فأفرد العائد إليه، ثم استخدمه بمعناه ثانيا، فجمع العائد إليه.
وفى الإفراد، والجمع، إعجاز من إعجاز القرآن.
ذلك أن الإيمان باللّه، عن طريق الاستدلال العقلي، وعن النظر في ملكوت السموات والأرض، ثم عن الاستماع إلى آيات اللّه، وتفهم ما فيها من حق وخير- هذا الإيمان لا يكون إيمانا حقا إلا إذا كان عن معاناة ذاتية، ونظر شخصى.. بحيث يرى الإنسان مواقع الهدى بنفسه، ويتبيّن وجه الحقّ بعقله.. وهنا يفتح قلبه للإيمان، وينزله منزلا مطمئنّا فيه، لأن إيمانه حينئذ قد جاء إليه عن طريق نظره، وإدراكه، واستدلاله، لا عن تلقين، أو محاكاة.
هذا هو الموقف الذي ينبغى أن يأخذه الإنسان في طريق التعرف على اللّه والإيمان به.. إنه يبدو وكأنه يقف وحده، لا ينظر إلى غيره مقلدا، أو متابعا.
ولكنّ الواقع أن أعدادا كثيرة من الناس تقف مثل هذا الموقف، تتهدّى إلى اللّه بنظرها، وتتعرف إليه بعقلها، وتؤمن به بقلبها.. فهم إذ جاءوا إلى الإيمان، جاء إليه كل واحد منهم باستعداده الخاص، وبتقديره الذاتي الشخصي.. ثم هم إذا دخلوا في الإيمان كانوا أعدادا كثيرة.. {أولئك يؤمنون به}.
أي أولئك الذين هم على بينة من ربهم، يؤمنون بهذا القرآن، لأنه يلتقى مع نظرتهم السليمة التي نظروا بها في ملكوت السموات والأرض.. فهم- والأمر كذلك- أفراد حين ينظرون في ملكوت السموات والأرض، وفى دلائل الإيمان ودعوات الهدى.. وهم جماعات كثيرة، حين يدخلون في دين اللّه، ويصبحون في المؤمنين.. {أفمن كان على بيّنة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة.. أولئك يؤمنون به}.
فهو- أي المؤمن- وحده، حين يتلقى الإيمان، ويتقبله.. ثم هو واحد في جماعات كثيرة تلقت الإيمان وتقبلته!! وفى قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} هو تهديد لأولئك الذين يقفون من القرآن الكريم موقف المستهزئين المكذبين.. فالنّار موعدهم التي يلتقون عندها بعد أن يقطعوا مرحلة عمرهم، وهم يتخبطون في هذا الضلال والظلام.
والأحزاب، جمع حزب، وهم طوائف الضالين، من كل بيت، ومن كل قبيلة، إذ ألّف بينهم الضلال، فجمع أحزابهم التي تحزبت، واجتمعت على الوقوف في وجه الدعوة التي يدعو إليها رسول اللّه.
وفى قوله تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ.. إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}.
تثبيت للنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- وشدّ لأزره، وربط على قلبه، وهو في مواجهة هذه الموجات العاتية الصاخبة، من الضلال.
وليس النبىّ بالذي يرتاب أو يشكّ فيما بين يديه من آيات ربه، ولكن الذي يحتاج إليه وهو في هذه المعركة، هو أن يمدّ من ربه بما يزيده يقينا، وثباتا.. ولهذا جاء بعد ذلك، قوله تعالى: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} والنبىّ على يقين من الكتاب الذي معه، وبأنه الحق من ربه، ولكن المعركة المحتدمة بينه وبين تلك القوى العاتية تحتاج إلى أمداد سماوية يمده بها اللّه، فتكون أشبه بجنود السماء في معركة بدر، التي أمده اللّه بها، وجعلها بشرى له وللمؤمنين، واطمئنانا لقلبه وقلب المقاتلين: {وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [10: الأنفال].. ولهذا أيضا جاء قوله تعالى: {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} مشيرا إلى كثافة هذا الظلام المنعقد من الكفر والضلال حول دائرة النور والإيمان!.
فالنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- محتاج في هذا الموقف إلى أمداد من ربه، تثبت فؤاده، وتربط على قلبه، حتى يصمد في هذه المعركة المحتدمة، ويصبر على ما يساق إليه من مكاره.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ.. أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}.
الأشهاد: جمع شاهد، أو شهيد، مثل صاحب وأصحاب، ومثل شريف وأشراف.
والمراد بهم هنا، الأنبياء، الذين يشهدون على أقوامهم.
والاستفهام هنا مراد به النفي.. وقد جاء في صيغة الاستفهام، ليكون أبلغ في تقرير النفي، ذلك أن هذا الاستفهام يستدعى جوابا، الأمر الذي يلفت السامعين إلى البحث عن هذا الجواب، وتفرس وجوه الظالمين جميعا، وتقليب أحوالهم، لتقع العين على من هم أظلم ممن افترى على اللّه الكذب.
ثم إذا دارت العين في كل مدار، وتطلعت في كل أفق، ثم لم تجد أحدا أظلم من هؤلاء الظالمين الذين افتروا على اللّه الكذب- كان الجواب بالنفي:
لا أحد أظلم ممن افترى على اللّه الكذب!! وحين يتقرر ذلك، يجىء التعقيب على السؤال وجوابه.. {أولئك يعرضون على ربّهم} أي هؤلاء الذين تقرر أنهم أظلم الظالمين، لأنهم افتروا على اللّه الكذب {أولئك يعرضون على ربّهم} وقد أشير إليهم بأداة الإشارة {أولئك} بعد أن تحددت صفتهم، وعرفت وجوههم، ليكونوا بمعزل عن المجتمع الإنسانىّ كلّه، وحتى لا يصيب أحدا شيء من هذا البلاء الذي يحلّ بهم! فالإشارة إليهم، إلفات إلى ذواتهم، حتى يبتعد الناس عنهم، ويحذروا الدنوّ منهم، لئلا يؤخذوا معهم، ويساقوا مساقهم.
والعرض على اللّه، هو عرض شامل للناس جميعا.. ولكنّ إفراد هؤلاء الذين افتروا على اللّه الكذب، بالعرض، وحدهم.. يشير إلى أنّهم سيعرضون عرضا خاصا، في ذلك المكان الذي عزلوا فيه عن الناس جميعا.
{وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ}.
الأشهاد، هم الرسل، الذين يحضرون عرض هؤلاء المفترين، على ربّهم. ويشهدون عليهم بما كان منهم، من تكذيب باللّه، وافتراء عليه، بما كانوا ينسبون إليه سبحانه من صاحبة وولد.. فكل نبى شهيد على من بعث فيهم.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ} [89: النحل].
ويقول سبحانه: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} [41: النساء].
وشهادة الرسل على هؤلاء المفترين على اللّه، هى شهادة تخزى هؤلاء المكذبين المفترين، وتبهتهم، وتدينهم بين يدى اللّه، وتقيم أسباب الحكم عليهم بالعذاب الأليم.. وفى هذا مضاعفة لآلامهم، حتى لكأن هذه الشهادات قيود وأغلال تمسك بهم أن يفلتوا من العذاب.
وفى إشارة الرسل إليهم بقولهم: {أُولئِكَ} تأكيد لذوات هؤلاء المجرمين، وإحكام للدائرة المطبقة عليهم، فلا يفلت منهم أحد، ولا يدحل عليهم من ليس منهم.. فهم وحدهم في هذا المكان المنعزل، وفى ذلك المنزل السوء.
{ألا لعنة اللّه على الظالمين}.
قد يكون هذا تعقيبا من الرسل بعد أن أدّوا الشهادة على هؤلاء الظالمين من أقوامهم، الذين كذبوهم، وآذوهم.. أو قد يكون تعقيبا من النّظّارة جميعا، من الخلائق التي شهدت هذا العرض، من الناس والملائكة.
وفى وصفهم {بالظالمين}، بدلا من {الكاذبين} الذي يقتضيه سياق النظم، إشارة إلى أنهم لم يكونوا كاذبين وحسب، بل كانوا متجاوزين الحدود في الكذب، مبالغين فيه، غير مقتصدين، أو واقفين به عند حدّ.. لقد كذبوا على اللّه، وكذبوا على أنفسهم، وكذبوا على الناس، وقلبوا وجوه الحقائق قلبا منكرا، فكانوا بهذا كاذبين وظالمين معا.
قوله: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ} هو بيان شارح لظلم هؤلاء الظالمين، وافتراء هؤلاء المفترين.. إنهم يصدّون عن سبيل اللّه.. يصدّون أنفسهم عن الإيمان، ويصدّون غيرهم عن أن يؤمنوا، ويقعدون لهم بكل سبيل، وإنهم ليريدون أن تكون سبيل اللّه معوجّة، بما يدخلون على الحق من ضلال، وبما يفترون عليه من كذب.
وإنهم آخر الأمر ليكفرون باللّه وباليوم الآخر.. وتلك هى حصيلتهم التي حصلوها في الدنيا، وجاءوا يحملونها على ظهورهم في الآخرة.
قوله تعالى: {أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ}.
أي إن هؤلاء الظالمين، الذين بلغ ظلمهم ما بلغ من الشناعة والفحش، والذين كان تعجيل العذاب لهم، يأخذهم بظلمهم في الدنيا، أمرا تستدعيه الحال- هؤلاء لم يعجّل اللّه لهم العذاب في الدنيا، لا لأن قوة تعصمهم من اللّه، أو تردّ عنهم بأسه- تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.. فما كانوا {معجزين في الأرض} أي ما كانوا ليعجزوا للّه عن أن يأخذهم بالبلاء والهلاك، كما أخذ الظالمين من قبلهم، وما كان لهم من أولياء يدفعون بأس اللّه عنهم، ولكنه سبحانه أخّرهم إلى يوم القيامة، حيث أن عقاب الدنيا، لا يستوفى منهم ما هم أهل له من بلاء ونكال.. واللّه سبحانه وتعالى يقول:
{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ.. وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ} [42- 43: إبراهيم]- وفى قوله تعالى: {يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ} إشارة إلى عذاب الآخرة الذي سيلقونه، وأنه أضعاف مضاعفة لعذاب الدنيا الذي حلّ بالظالمين قبلهم، وأنهم إذا كانوا قد أفلتوا في الدنيا من عذاب اللّه، فإنه سيضاف إلى عذابهم في الآخرة، ويضاعف لهم العذاب.
وفى قوله تعالى: {ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ} تعليل لما هم فيه في هذا اليوم من بلاء عظيم، إذ أنهم في دنياهم قد عطلّوا حواسّهم، فلم ينتفعوا بها في الاستماع إلى آيات اللّه، أو في النظر إلى ملكوت السموات والأرض، وما يتجلّى فيه من آيات الخلاق المبدع العظيم!- وفى قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ}.
تعقيب على تلك المحاكمة التي أدين فيها هؤلاء الظالمون.
إنهم قد خسروا أنفسهم، وأوردوها هذا المورد الوبيل. أمّا ما كان بين أيديهم من مفتريات وأباطيل، فقد صفرت أيديهم منه، ولم يبق لهم إلا ما أعقب من الحسرة والندامة! قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} لا جرم: أي لا شكّ ولا ريب.
والمعنى أنه لا جدال، ولا شكّ في نظر أي عاقل ينظر في أحوال هؤلاء الظالمين، وما جنوا على أنفسهم- أنهم هم أخسر الناس صفقة، إذ اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة {فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ}.
فكما أنهم كانوا بفعلهم المنكر أظلم الظالمين، كذلك هم يوم توفّى كلّ نفس ما كسبت، وينال كل عامل جزاء ما عمل- هم أخسر الخاسرين في هذا اليوم، يوم الجزاء.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} أخبتوا إلى ربهم: الإخبات: الولاء والخضوع، وأرض خبيت أي مطمئنة مستوية.
والمعنى أنه إذا كانت النار مثوى الظالمين، فإن الجنة هى دار المتقين، الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأسلموا أنفسهم للّه، وأخلصوا له الولاء والطاعة، واستقبلوا آيات اللّه في غير عناد واستكبار، ونظروا إليها بغير استعلاء وازدراء، فعرفوا أنها الحقّ، فاتبعوه.
وفى المقابلة بين أصحاب النار وأصحاب الجنة، نظر لناظر، وعبرة لمعتبر.
فهناك شقاء، وبلاء، ونكال، وهنا نعيم، ورحمة، ورضوان.. ولكلّ منزلة أهلها، والعمل هو الذي يضع كل إنسان موضعه.
قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ} هو عرض للفريقين معا- الذين كفروا، والذين آمنوا.. أصحاب النار، وأصحاب الجنة- في هذه الصورة الحسيّة، التي يراها الناس رأى العين، والتي تمثل حال كلّ منهما في وضوح وجلاء.
فالذين كفروا يرون صورتهم على صفحة مرآة، لا تتحرك عليها إلا أشباح آدميين، معطوبين، مصابين بآفات العمى والصمم.
وإن الذي ينظر في هذه الأشباح المتحركة على تلك الصفحة، يرى عالما يضرب في نيه وضلال، ويتخبط في ظلام وضباب.!
فالأعمى.. إذا دعا لا يجد لدعائه من يسمع ويستجيب!.. وهو لا يملك غير الدعاء.
والأصمّ.. إذا أشار، لا يجد من يبصر إشارته، ويترجم مضمونها.
وهو لا يملك غير الإشارة.. فهذا هو عالم الضّالين والكافرين.. هم بين أعمى، لا يجد من الصمّ الذين بين يديه، من يستمع له.. وبين أصمّ، لا يجد من العمى الذين معه من يستجيب لإشارته.. فكل منهم ضالّ يحتاج إلى من يهديه، ويسدّ النقص الذي فيه، فكيف إذا كانوا كلّهم عميا وصمّا؟
أما الذين آمنوا.. فهم عالم نابض بالحياة، مستكمل كل أسباب الوجود الكريم.. فهم بين سامع ومبصر، وسميع وبصير.. ليس في عالمهم مئوف في حاسّتيه هاتين.. وإنما هم متفاوتون في درجات السّمع والبصر.. فإذا كان فيهم السامع، فإن فيهم من هو أرهف سمعا، وهو {السميع}، وإذا كان فيهم من هو مبصر، فإن فيهم من هو أحد بصرا وهو {البصير}.
وبهذا يكمّل بعضهم بعضا، ويصبحون آخر الأمر جهازا سليما كاملا، للمسموعات، والمبصرات جميعا.. يلتفطون كل مسموع، ويتبادلون المعرفة فيما سمعوا، ويكشفون كل منظور، ويتعاطون العلم لكل ما أبصروا واستبصروا!- وفى قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا} استفهام يراد به تقرير النفي.
أي لا يستوى الفريقان أبدا.
{ومثلا}: تمييز.. أي هل يستوى هذان الفريقان من جهة المماثلة بينهما، والموازنة بين قدريهما؟
وفى قوله تعالى: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} تحريض لذوى الألباب أن يقفوا عند هذا المثل، وأن ينظروا إلى ما فيه من عبرة واعتبار!.. فعلى ضوء هذا المثل ينكشف الفرق بين المؤمنين والكافرين!


{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}.
مناسبة هذه القصّة، لما قبلها أنها تعرض من الماضي صورة للصراع بين الحق والباطل، وبين المحقّين والمبطلين، بعد أن عرضت الآيات السابقة موقفا قائما بين النبىّ وقومه، وما يدعوهم إليه من هدى وخير، وما يلقونه به من صدّ وتكذيب! وفى ذكر أخبار الأولين، وما في تلك الأخبار من مواقف مشابهة للأحداث الجارية التي يعيش فيها الناس يومهم هذا، تذكير لهم بتلك الحقيقة التي تقررت بحكم الواقع، وهى أن النصر دائما للمؤمنين، وأن الخزي والهوان دائما على المكذبين الكافرين.
وقصة نوح وقومه، هى أولى الأحداث الإنسانية، التي اصطدم فيها رسول من رسل اللّه بقومه.. ثم تجىء بعد هذا قصص مشابهة لها، يجىء بها القرآن مرتبة ترتيبا زمنيا، حسب وقوعها.. قصة عاد ونبيّهم هود وقصة ثمود ونبيّهم صالح.
وهكذا.. إبراهيم، ولوط، وموسى، وعيسى.
فهذا نوح- عليه السلام- يلقى قومه برسالة ربه، منذرا إياهم بالعذاب الأليم، إن هم لم يستجيبوا له، ويؤمنوا باللّه رب العالمين.. ومبشرا لهم بالجنة والرضوان إن هم آمنوا باللّه، وأخلصوا دينه له.. {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} وهذا أول صوت نسمعه من نوح، يؤذّن به في قومه، في هذه القصة.
ولا شك أن هناك أحداثا كثيرة، طواها النظم القرآنى، ولم يذكرها، إذ هى مما يفهم بداهة.. كمجىء نوح إلى قومه، ودعوته لهم، وشرحه لرسالته فيهم.. ومن قبل ذلك، كان إعلام اللّه سبحانه وتعالى إيّاه باختياره للنبوة، واصطفائه بالرسالة، ثم تلقيه مضمون هذه الرسالة.. وهكذا.
وفى قول نوح لقومه: {إنى لكم نذير مبين. ألّا تعبدوا إلا اللّه إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم} هو تلخيص لمضمون رسالته، وضبط لمحتواها.. فهو نذير بليغ، يحذرهم عذاب الآخرة.
والضمير في قوله تعالى: {منه} يعود إلى اللّه سبحانه وتعالى.. وهو- جلّ شأنه- وإن يكن لم يجر ذكره في اللفظ، فهو مذكور على كل حال، وفى كل زمان، ومكان، وفى هذا إشارة إلى أن ما فيه الضالون من غفلة عن اللّه، وشرود عن ذكره، هو أمر خارج عن مقتضى الطبيعة الإنسانية السليمة الرشيدة.
قوله تعالى: {فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ}.
هذا هو الجواب الذي استقبله نوح من قومه، ردّا على دعوته إياهم، إلى الإيمان باللّه.
{ما نراك إلا بشرا مثلنا}.
فهذا هو ما رابهم من أمر نوح ومن دعوته.
إنه بشر مثلهم.. وليس لبشر- كما قدّروا ضلالا وجهلا- أن يكون أهلا للسفارة بين اللّه والناس! وقد كان الأولى بهم أن ينظروا أولا في وجه الدعوة التي يدعوهم إليها رسول اللّه، قبل أن ينظروا في وجه هذا الرسول.. فإذا كانت دعوة فيها خيرهم ورشدهم، كان من الحكمة والرأى، أن يقبلوها، ولا ينظروا فيما وراءها.
وإلا كان لهم أن يقفوا منها الموقف الذي يدلّهم عليه العقل والرأى.
وقوله تعالى: {وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ} هو إشارة إلى مدخل من مداخل الريب والشك عندهم، في أمر نوح وفى دعوته، وهو أن الذين استجابوا لنوح، هم من ضعفة القوم والمرذولين فيهم، والرّذل من كل شيء هو الخسيس منه.
فالذين استجابوا لدعوة نوح، كانوا من الذين لم تقم لهم في مجتمعهم رياسة، أو تقع لأيديهم سلطة، يخشون عليها من هذا الطارق الجديد، الذي يطرقهم بتلك الدعوة، التي يخشى منها أرباب الجاه والسلطان، أن تكون سببا في تغيّر الأحوال التي اطمأنوا إليها، وشدّوا أيديهم عليها.
وهكذا، يكون الموقف دائما في مواجهة كل جديد، يطلع على الناس.
فأصحاب الجاه والسيادة والسلطان، يتصدّون له، ويقفون في وجهه، لأنه غالبا لا يطلع عليهم إلا بما يبدّل من أحوالهم، ويغيّر من أوضاعهم.. أما من لا سلطان لهم ولا جاه، فإنهم يستقبلون الجديد، وينظرون فيه نظرا غير محجوز بهذه الحواجز التي يقيمها المال والجاه والسلطان، بين أهله وبين كل جديد.
وفى قولهم: {بادِيَ الرَّأْيِ} إشارة إلى أن الذين انبعوا نوحا هم- في نظر أصحاب السيادة والسلطان- من أراذل القوم، الذين لا يخفى أمرهم على أحد، ولا يحتاج التعرف عليهم إلى بحث ونظر، بل إن النظرة الأولى تحدّث عنهم، وتمسك بهم! فلا خلاف بين القوم على منزلتهم الاجتماعية فيهم، وأنهم بحكم فقرهم وضعفهم، موضوعون في أدنى درجات السّلّم الاجتماعى! هكذا ينظر إليهم القوم، وهكذا يحكمون عليهم.
وفى قوله تعالى: {وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ} تأكيد للرأى الذي رآه القوم في نوح وفيمن اتبعه، وأنه لا فضل لنوح والذين معه على القوم، فكيف يدعونهم إلى متابعتهم، والتابع من شأنه أن يكون دون المتبوع ووراءه.. فهل يعقل- والأمر كذلك- أن يكون نوح ومن معه متبوعين، ويكون القوم أتباعا لهم؟
ثم لا يكتفى القوم بهذا، بل يرمون نوحا ومن اتبعه بالكذب والبهتان على اللّه.. والظن هنا يقين.. بدأ عند القوم ظنّا، ثم استحال مع الجدل والعناد، يقينا.
قوله تعالى: {قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ.. أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ}.
البيّنة: الحجة والبرهان والدليل، الذي به يتبين الإنسان موقفه من الأمر الذي معه.
والرحمة: النعمة التي أنعم اللّه بها عليه، وهى التعرف على اللّه، والإيمان به.
عمّيت عليكم: أي خفى عليكم أمرها، وعميت أبصاركم عنها.
أنلزمكموها: أصلها أنلزمكم إياها.. والإلزام بالأمر: الحمل عليه بالقهر والقوة.
و{ها} في قوله تعالى: {أنلزمكموها} ضمير بعود إلى الرحمة، وهى الإيمان باللّه.
وفى هذا الردّ الذي ردّ به نوح على قومه إشارة إلى أن المعتقد الديني لا يكون عن قهر وإكراه، وإنما هو أمر لا يتمّ إلا عن اقتناع، وقبول، ورضا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ}.
وقد أشرنا من قبل إلى معنى البينة عند تفسير قوله تعالى: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ} (الآية 17 من هذه السورة) وقلنا إن البينة هى الفطرة السليمة المركوزة في كيان الإنسان، والتي يجد منها صاحبها الدليل الذي يدلّه على اللّه سبحانه وتعالى، من غير أن يرد عليه وارد من الخارج، يدلّه على اللّه.. فإذا جاء هذا الوارد، كان رحمة وفضلا من اللّه سبحانه، إلى ما أودع اللّه في الإنسان من فطرة سليمة.، وعقل مدرك مبصر.
قوله تعالى: {وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ}.
ومن حجّة نوح على قومه، أنه إذ يدعوهم إلى ما يدعوهم إليه، وإذ يحتمل في سبيل ذلك ما يحتمل من جهد وبلاء- أنه لا يسألهم أجرا على هذا العمل، الذي يحتمل من أجله ما يحتمل من عناء، وإنما هو حسبة للّه.. ولو أن نوحا كان يبغى بما يدعوهم إليه أجرا منهم، أو نفعا ذاتيا له، لكان لهم أن يظنّوا به الظنون، وأن يرتابوا في أمره، وفى هذا الإلحاح الّذى يلحّ به عليهم، رغم ما يجبهونه من تكذيب، وما يرمونه به من ضرّ.
وإذ كان الأمر كذلك، فإنه مقيم على دعوته، ممسك بمن استجاب له من قومه، وإن كانوا كما يقولون فيهم، إنهم أراذلهم!.. ذلك أن القوم جميعا مدعوون إلى اللّه، ولا يأخذ الداعي أجرا من المدعوّين، سواء أكانوا أغنياء أم فقراء.. أصحاب جاه وسلطان، أم مجردين من كل جاه وسلطان.
فالباب مفتوح، لكل من يريد الدخول إلى ساحة اللّه، ومن دخلها مستجيبا لدعوة اللّه، فإنه من غير المقبول أو المعقول أن يطرد بعد أن أجاب.. فهؤلاء الذين آمنوا هم في طريقهم إلى اللّه، ولن يطردهم ويردّهم من دعاهم إليه.
ولكنّ القوم في جهل وضلال، لا يرون حتى هذه البديهيّات من الأمور.
قوله تعالى: {وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ.. أَفَلا تَذَكَّرُونَ}.
أي إن الجماعة الذين آمنوا قد أصبحوا في ضيافة اللّه، فكيف أعتدى على ضيوف اللّه؟ وكيف أطردهم من ساحته وقد تحصّنوا به، ونزلوا في حماه؟
أفلا يحمى اللّه- سبحانه وتعالى- ضيوفه؟ أفلا يأخذ على يد من يعتدى على من كان في ضيافته، ومن احتمى في حماه؟ إن ذلك ما لا بد أن يكون.. فلله سبحانه وتعالى غيرة على حرماته أن تنتهك.. فهل إذا انتهك نوح حرمة اللّه، وطرد المتحرمين بهذه الحرمة، ثم أخذه اللّه ببأسه.. أفي القوم من ينصر نوحا ويدفع عنه بأس اللّه إن جاءه؟.. ذلك محال.
وإذن فلن يطرد نوح من آمن باللّه، ولن يخلى مكانهم لهؤلاء السادة الذين يأبون أن يكونوا هم وهؤلاء {الأرذلون} على مائدة واحدة، ولو كانت مائدة اللّه، الممدودة لعباد اللّه!! قوله تعالى: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً.. اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ.. إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}.
إنه ليس بين يدى نوح ما يقدّمه لهؤلاء القوم، الذين يقدّرون خطواتهم التي يخطونها نحو أمر من الأمور، بقدر ما يمكّن لهم هذا الأمر من سلطان، وما يكثّر في أيديهم من أموال.
إنه ليس معه شيء يغريهم به، ويشدّهم إليه نحو هذه الدعوة التي يدعوهم إليها.
إنّه ليس عنده خزائن اللّه، حتى يملأ أيديهم منها.. فذلك إلى اللّه وحده.
وإنه لا يعلم الغيب، حتى يكشف لهم عن مسالك الطرق التي يأخذونها إلى غايات النجاح والفلاح، وإنه ليس ملكا من السماء، يملك من القوى ما لا يملكون.. إنه بشر مثلهم!!
وإنه ليس له أن يحكم في أمر هؤلاء الذين يحقرونهم، ويزدرونهم ويرون أنهم ليسوا أهلا لأن يلبسوا فضلا، أو يسبقوا إلى خير.. اللّه أعلم بما في أنفسهم، وما استكنّ في قلوبهم، من إيمان أو نفاق.. فإن الحكم عليهم من جهة نوح بما استكنّ في سرائرهم، هو ظلم، لأنه حكم بغير بينة، إذ لا يعلم ما في السرائر إلا اللّه.
فهذا هو نوح، الذي يدعوهم إلى اللّه.. إنه بشر مثلهم، وإنه لا يملك لأحد ضرّا ولا نفعا.. فإن قبلوه على ما هو عليه، وآمنوا باللّه، فذلك من حظّهم.
وإن أبوا عليه، وخالفوه.. فلهم ما شاءوا.. {أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} إنه لا إكراه في الدين..!


{قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
إنه بهذا اللقاء الذي يفيض بالجفاء، والضجر- يلتقى القوم بنوح، فيلقون إليه بهذه الكلمات المتهجّمة المتوعدة:
{يا نوح: قد جادلتنا فأكثرت جدالنا}.
وإنه لجدل عقيم، قد تصدّعت له الرءوس.. فأعفنا من جدلك هذا، وهيّا ائتنا بما تعدنا من العذاب، إن كنت من الصادقين!! هكذا منطق السفهاء والحمقى، مع دعاة الخير، وقادة الناس إلى الهدى والرشاد! تطاول، وسفاهة، وسخرية، واستهزاء.. ثم تحدّ وقاح لما أنذروا به من عذاب اللّه.. إنهم ينكرون أن يكون نوح على صلة باللّه، ويرون ما أنذرهم به ليس إلا من مفترياته على اللّه.. فليأت بهذا العذاب إن كان من الصادقين.
وفى لطف ووداعة ولين، وتواضع، يلقى هذا التحدي.. فيقول ما حكاه القرآن عنه، في قوله تعالى: {قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}.
فذلك ليس أمره إلى يدى، وإنما أمره إلى اللّه، ينزله بكم حيث شاء علمه، وقضت إرادته.. ولستم بالذين يعجزون اللّه، أو يجدون مهربا من وجه العذاب الذي يأخذكم به، حين يشاء!: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
وليس لى كذلك أمر هدايتكم وإرشادكم، والانتقال بكم من الضلال إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان.. فذلك أمره إلى اللّه وحده.. فإن كان اللّه سبحانه وتعالى قد أراد بكم ألّا تبصروا من عمى، وألا تهتدوا من ضلال، فذلك شأنه فيكم، وحكمه عليكم، وأنتم مربوبون له، وهو ربكم، وإليه مرجعكم.. إن شاء عذّبكم، وإن شاء عفا عنكم.
وفى قصر الحديث معهم على الإغواء، وهو الإضلال، دون الحديث عن الهداية والإرشاد إلى الإيمان- إشارة إلى أنّهم لن يكونوا إلا هكذا، وأن اللّه سبحانه وتعالى، قد أخبر أنهم لن يؤمنوا، كما قال تعالى بعد ذلك: {وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}.
وفى قوله: {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} مع أنه ينصح لهم فعلا، إشارة لى أنه لو أراد معاودة النصح، ومراجعتهم في موقفهم، بعد أن قطعوا عليه لطريق بقولهم: {يا نوح.. قد جادلتنا فأكثرت جدالنا} إنه إن أراد أن يجدّد النصح ويعاوده، فلن ينفعهم ذلك، إن كان اللّه قد أراد لهم الضلال وكتب عليهم الكفر.
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} هو حديث إلى المشركين من قريش وأحزابهم، وفضح لما يدور في خواطرهم، ويتردد في صدورهم، ويتحرك على شفاههم من اتهام للنبىّ بأنه افترى هذا الحديث الذي تحدّث به عن نوح وقومه، أو أنه افترى هذا القرآن الذي يحدثهم به، وأنه ليس وحيا من عند اللّه، كما يقول.
وقد ردّ اللّه عليهم بقوله للنبىّ: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} أي إن يكن ما جئت به هو اختلاق وكذب، فهو جريمة منكرة، وإثم غليظ.. ولكن تبعة هذا الجرم علىّ وحدي، إن يكن ما جئت به مفترى على اللّه.. وليس عليكم منه شىء، وإنما عليكم تبعة هذا الجرم الذي أنتم فيه، وهو الكفر باللّه.. وأنا برىء مما أجرمتم، وممّا يصيبكم منه من عذاب عظيم.
وقد جاءت هذه الآية في ثنايا قصة نوح ليلتفت إليها المشركون، وكأنّها قصتهم.. ثم لينتبهوا إلى ما سيجيئ بعدها.. من أخذ اللّه سبحانه وتعالى للظالمين والمكذبين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7